الخميس، 30 أكتوبر 2008

لغة التكنولوجية الرقمية وتفاعلها مع الوجود الإنساني

توصل العلماء إلى مفارقات وإنجازات هائلة في التعامل مع الدماغ البشري والكشف عن مكوناته الجينية وأساليب تفاعله مع ذاته وغيره ولم تزل النواقص كثيرة حول معرفة ماهيته ويحتاج العلماء إلى الكثير من الجرأة والبحث في خضم الخفايا وظواهر الغموض في الذات الإنسانية وعقلها المشكل عبر تاريخ صعب الإحاطة به ، فالقدرة على التغيير والاكتشاف يجب أن تتحرر من كافة المعيقات في وجهها وارتفاعها إلى مستوى الوعي القائم على الحياد المتحرر من كافة الارتباطات المعيقة لوعي عقل إنساني خالي ومجرد من أي تأثير ، فالوعي المتضمن للمعارف عليه أن يكون محايداً وغير متأثراً ومتعاطف مع طراز أو نمط معين من طرائق الفكر البشري المتعدد الانتماء .
فالعقل المكتشف والمبدع عليه أن يضع نتائج جهوده في المتناول المعرفي لجميع البشر عليه البحث عن السبل الكفيلة بخلق الوضوح دون عقاب فالكتمان آفة العقل الإنساني عبر تاريخه الطويل ، ومن خلال الكتمان والألاعيب السرية يتم تدمير الإنسانية في عمقها الواعي ، والعالم في وجوده الموضوعي ، فالمعارف والعلوم السرية تحرك مجالاً واسعاً من الوجود الإنساني ، لغايات وأهداف سرية ، فالكون المبرمج بالعقول المغطاة بأقنعة وهمية تكون التغيرات فيه مخادعة للعقل والوجود السليم ، لأن من يسعى لتغيير العالم وفق مصالحه وأهدافه الذاتية سواء أكانوا أشخاص أو دول غالباً ما يصلون إلى واقع يتفق مع مخططاتهم ، غير أنه واقع قلق وغير مستقر ومعرض للزوال ، إنه واقع مؤسس على التبعية والنمطية والجمود ، مؤسس على أفكار واهية وجرداء من كل روح قائمة على الحيوية والتتابع السليم .
فالوجود المؤسس لكي يتوافق مع غايات سرية وأنانية يحمل في وجوده أسباب انهياره الكامل لأن الوعي المتشكل غير قائم على الضرورات الأساسية للوجود ، إنه مؤسس على الضرورات الأساسية للمخططين والمنفذين لبرامج تخدم وجودهم وتطلعاتهم للحياة بما يتفق مع أهوائهم لذلك نجدهم يغيبون كل فعالية إنسانية لا تنسجم مع غاياتهم .
كل إنسان على هذا الكوكب قادر على الاستغراق في ذاته يدرك أنه يحمل منظومة من الاحساسات والتصورات والمعتقدات الضمنية يكبتها ويعزلها وينشط السلوك للوصول إلى ماهيتها بعيداً عن رقابة الآخر ، حتى ولو كان الآخر يظهرها على دائرة الضوء والوضوح نظراً لتجاوز خلفياتها ومؤثراتها على بنية وعيه ، هذا الأسلوب في التخفي يظهر الإنسان شكلاً ويعزله مضموناً ساعياً لتحقيق غاياته من خلال التراث وجميع الأفكار المعلقة في وعيه كإرشادات ونظم يرى من خلالها أسلوب الخلاص المزيف .
وفي الوقت الراهن تم اكتشاف أجهزة تمتلك طاقة تخزين هائلة من المعلومات والبيانات والإحصاءات وغيرها من الفعاليات الداخلة في التركيبة البنيوية للوجود الإنساني ، فقد بدأ التعامل على أن الوجود الإنساني وجود رقمي ، وكل ما يتعلق ويتفاعل مع هذا الوجود من علاقات وأفكار وأحاسيس واندفاعات وإبداع يندرج تحت واقع إحصائي رقمي يدخل في حوذة صانعو القرار في العالم . فالحضارة العالمية الجديدة مبنية على الوجود الرقمي والصناعات الرقمية قادرة على اختراق متاهات الكون الواسع والتعرف عليه ، فالفاعلية الرقمية والقدرة على التشكيل والتصميم تتحقق مع مظاهر الصناعة الفائقة الدقة في التصميم .
فالحصيلة المعرفية للبشرية هي التفاعل مع كمية هائلة من البرامج والمعلومات والبيانات يمكن أن تصل إلى كافة الشعوب ، وتبقى رهينة العمل في هذه البيانات ومعالجتها وبالتالي ينشأ التقاعس المستمر للتفاعل مع وجود إنساني عليه قبل كل شيء الاتفاق على أساليب محددة للعلاقات بين الشعوب والأمم على مختلف مستوياتها في هذا الوجود القائم على الاختلاف . ليبقى العالم مستمراً في تعميق البعد الإنساني والذاكرة الإنسانية المنسجمة مع وجود إنساني متفاعل ومتعاون على تأمين الاستقرار النسبي لهذا الوجود الحي .
فالتقدم التكنولوجي المعاصر متواصل الحلقات بالاعتماد على الأقمار الصناعية في الإرسال التلفزيوني وشبكات الاتصال الأخرى ، وتفاعل المعلومات الكونية ومراقبة الوضع البيئي والثروات الباطنية وكل المتغيرات في مجال النشوء الحي ، وذلك للتخفيف من حدة الشكوك والشعور بالعداوة تجاه الغير وكسر الطوق الحديدي لاحتكار الصحافة لتوجيه الأخبار ، من خلال توجيه قنوات متاحة بكثرة لجميع الآراء والأذواق المتعددة في المجتمع والعمل لتأسيس نظام صحفي تحرري يمكن أن يترافق مع ظهور الإعلام المنزلي ويعزز المشاركة الشعبية الكاملة في عمليات صنع القرار الحكومي .
فالسياسة التكنولوجية المعاصرة تسعى لإشاعة المفهوم القائل بأنها تتطور خارج مفاهيم التاريخ وهذا ما يجعل الفكر التاريخي بالنسبة إليها مفاهيم مغايرة في تطورها لما هو حاصل الآن من تغيرات في بنية الوعي الكوني ، وينحصر التفكير التكنولوجي بالكيفية المتاحة لتوصيل تكنولوجيا المعلومات إلى القواعد التحتية في المجتمع .
فالتوجيه المركز لإرسال وبث كم هائل من المعلومات المتباينة وفي مختلف مناحي الحياة الإنسانية ، لا يمكن من خلالها القضاء على الأمراض الاجتماعية والأمراض الناتجة عن ضعف الوعي الثقافي للكثير من الأمم . وإن الغاية من استغلال هذه المعلومات لأغراض تجارية ومصالح اقتصادية غير ميالة لإقحام نفسها في تحقيق العدالة الإنسانية كقيمة أغلى من كل ما تسعى لترويجه .
فالمصالح الإنسانية والتوافق الإنساني تظل دائماً هي الاعتبار الأخير في توجهاتها العامة وتفاعلها مع الثروة الكونية ، لأن المصالح العسكرية والتجارية تسعى للسيطرة على تكنولوجيا الإعلام والمعلومات وتغذية التفاعل الدعائي كجانب مستقل في غايته وفعل محرك لنشاط السوق العالمية ، ومهما توسعت أنظمة البث الرقمية وتزايدت قنوات الاتصال في العالم لن تنحصر مهمتها في الدفاع عن المصالح العامة والحاجات التعليمية والثقافية للشعوب .
وتظل تسعى لإثارة الخرس الاجتماعي من خلال إخفاء الحقائق وإضاعتها بين الكم الهائل من المعلومات المنتشرة في أرجاء المعمورة . فالشركات العملاقة والعابرة للقارات تحتكر جميع المعلومات الخاصة بضمان خصائصها الذاتية وبرامجها الاقتصادية وكمية الإمكانات النقدي الواردة إليها من خلال تسويق الأعمال والإنتاج ، وتندرج طبيعتها الاقتصادية كقوة هائلة غير واضحة المضمون ، يختفي من خلالها أسماء المساهمين في بنيتها المالية ومعدي البرامج والاختراعات . وهذا ما يجعل الشعوب مغيبة عن معرفة قادتها الحقيقيين ، لأن التداخل بين ما هو وطني وما هو عالمي مبني في أساسه على مصلحة المساهمين في الأسواق المالية .
فالاتجاه المعتمد والمقصود للسرّية داخل الحكومات يعزز ويدعم سرية الشركات ويمكن أن تتوصل هذه الشركات إلى نتائج باهرة من حيث القيمة لأن إخفاء مداخيلها الأساسية يمكنها من تسويق الأكاذيب حول وارداتها المالية حيث يظهر الربح عندها كأنه مساو لدخل دكان لبيع الحلويات .
وهذا ما يؤدي إلى تزوير جميع الحقائق الاقتصادية في العالم ، ويجعل أصحاب رؤوس الأموال في حالة عوز دائم للمال ويمكن تصويرهم بأنهم متسولون أما البنوك .
فالسرية المتبعة في العمل التجاري تخفي في مضمونها كل المعلومات عن سياسة الأرباح وتلزم جميع السياسيين والإداريين بالتعامل الأدبي مع أصحاب الشركات لأن العلاقة بين الفريقين هي علاقة التوافق بين احتكار السلطة واحتكار الاقتصاد ، وإن التفاعل بين السلطتين يضمن سلامة قواعد اللعبة ، كما يؤدي إلى دمجهما مع المكونات التكنولوجية والإعلامية الجديدة وإظهار تطابقهما المتوافق مع المصالح القومية والاجتماعية للدول .
ومع التطور التكنولوجي يمكن أن يتم توزيع السلطات والمصالح بينهما وفق تخطيط معالج في برامج الكومبيوتر ، بحيث يمكن صياغة القرارات والقوانين وإخراجهما من خلال البرامج الخاصة بالكمبيوترات العملاقة ، أما الشركات المختصة بصناعة وتجميع الكمبيوترات وبرامجها تحرص دائماً على تحديد العناصر المكونة لنوعية البيانات التي يمكن استيعابها وتشغيلها من خلال الأجهزة المذكورة ، ولا يمكن لصناع المعدات الالكترونية العملاقة أن يجعلوها تقوم بتصميم وتخطيط منظومة من المعلومات تشكل تحدياًُ لسيطرتها ، فتكنولوجيا المعلومات مهما بلغت من الاتساع والإقحام في جميع المجالات الحيوية للأعمال الإنسانية لا يمكن أن تحل المشاكل الاجتماعية وأمراض العصر السلوكية بل غالباً ما تضيف مشاكل جديدة لهذا العصر .
وبمقدار القدرة على توليد وإنشاء المعلومات على نطاق واسع تتولد أساليب جديدة ودقيقة للسيطرة عليها ، وهذا يعني بأن الديمقراطية الالكترونية هي مجرد وهم ، فالحرية التي تخضع للمراقبة هي في حقيقتها ليست حرية ، فالكمية الهائلة من المعلومات غير القابلة للتحديد لا يمكن أن يستوعبها أحد وبالتالي يجري غربلتها بناءً على خبراء ومهندسين مختصين ، بحيث يم بث مجموعة من المعلومات ذات أهمية حيوية ضمن كم هائل من المعلومات السطحية يصعب انتقاء ما هو مفيد منها ويجعل المتتبعين لها في حالة ضياع .
فالطاقة المستقبلة الناتجة عن الإسهام المعرفي والتكنولوجي تحتاج إلى عقل فاعل وقادر على التفاعل معها ولا يمكن لعقلية حفظية تعيش على المفاهيم السلفية أن تطبق مفاهيمها على منظومة المعلومات الرقمية وشبكات الانترنت ، فالحياة في جوهرها العام تحتاج إلى الفصل التام بين المفاهيم الأخلاقية والمعتقدات الضمنية وبين نظام البرمجيات لأنها بعيدة عن العاطفة وتتوخى الدقة في نظامها فالحياة التكنولوجية ستغير بنية الوجود الاجتماعي وتجعله مطابقاً لمضامينها الجوهرية وتعمل لتوحيد الانسجام في الذات الإنسانية وتفاعلها مع الاكتشافات القادمة بما يؤدي إلى تأمين سلامة الإنسان والطبيعة المحيطة به من أخطار الكوارث في مجال النشوء الحي .


المرجع المعتمد :
هوبرت . أ . سيللر : ترجمة عبد السلام رضوان – المتلاعبون بالعقول – عالم المعرفة – المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت- العدد 106 .
اللغة والتكنولوجيا : محمد كشاش – الفكر العربي مجلة الإنماء العربي للعلوم الإنسانية صادرة عن معهد الإنماء العربي في بيروت – العدد 90.

التفاعل اللغوي والبرمجة الكونية

http://hoseen.blogspot.con
القدرة اللغوية صيغة تعبيرية متفاعلة مع التغيرات الجارية مهما بلغت قوة الدقة في بنيتها التكنولوجية وقدرة اختصارها للوجود على نحو تشكيل الوعي البشري ضمن إطار الدمج الالكتروني للمعارف والثقافات البشرية .
فقدرة اللغة على مواجهة التحديات الناشئة والتغيرات الطارئة على البنية التكوينية للمعارف الإنسانية ، يجعلها متداخلة مع بنية العالم في جوهره وأساس تطوره الدائم ، والتفاعل مع المتغيرات بحيوية فائقة ، لأن الوعي التعبيري والثقافي هو الطاقة الكاملة عند الشعوب ، لتأمين التفاعل مع التغيرات الجارية والمتزامنة مع التطورات السريعة للمعارف العلمية والبرامج الالكترونية وأجهزة الإرسال الموجه ، لقد تفاعلت مع حياة الشعوب الداخلة في نظام يسعى للإنقلاب على وجوده التاريخي وتعديل البنية الاجتماعية للوجود البشري ، من خلال بث كم هائل من المعرفة المختلفة والمغايرة والمتضاربة أحياناً أخرى ، على كامل الساحة الكونية للوجود الأرضي . فالقدرة اللغوية على الانفتاح على كافة المسائل المتعلقة بالوجود ، والقدرة على معرفتها وتضمينها وعياً ينسجم مع البنية العقلية والمعرفية ـ وقدرتها على احتواء المعارف وأنماط السلوك وطبيعة العقائد والطقوس ، نابعة أساساً من بنيتها التكوينية والطريقة التي نشأة فيها ، فاللغة المعدة لمواجهة التحديات وأساليب التفاعل مع العقل هي لغة حية في أساس تكوينها ، فالطاقة اللغوية طاقة انفتاحية على المعارف العلمية والتقنية ، ومجمل المفاهيم الفكرية والفلسفية قادرة على إحداث تحولات جذرية في البنية المفاهيمية والثقافية السائدة ، لأنها مترافقة مع همه معرفية وتهيئة ذهنية وصفاء في البعد الشعوري والوجداني للانخراط في المشاركة الواعية لبناء الحضارة الإنسانية ، والإسهام في بناء واقع ثقافي كوني ، متعمق وقادر على النهوض الاجتماعي والاقتصادي ، فيما يعزز التفاعل وإرساء قواعد ناظمة لعلاقات فاعلة في الوجود العالمي .
اللغة الحية تدخل المعترك الكوني لأنها تدرك بأن مجالات الانفتاح في بنيتها لا يمكن التأثير فيه ولا يمكن إنهاء دوره وأثره في البنية التكوينية المعرفية والمضامين النفسية الداخلة في وجودها بعمق تاريخي منقطع النظير .
المعرفة عطاء يعطي الاتساع في الوعي الاجتماعي تعمقه وتزيد محتواه وترفع مستواه التفاعلي ليدخل في مجرى الحياة الإنسانية على أساس متين ، ويمتلك أسلوباً للتفاعل مع المتغيرات الجارية في العلم . في الاتجاه المقابل غالباً ما يعمل المجتمع للحد من النشاط المعرفي ويعطيه حدوداً ، إنه يقلص الوعي الفعال في حدود ويقلل من محتواه الفعلي ، فيظهر الوعي المعرفي محاطاً بأسلاك شائكة لا يجوز اختراقها ، لأن المجتمع لا يريد العبور خلف حدوده ، فيعطي الأفكار مردوداً يعادل قدرته على الحركة والتفاعل مع الوعي الخارج عن الإطار الاجتماعي ، ويحدد المعرفة القادرة على الدخول في بنيته ، فيخلق التباين الاجتماعي الفكري في المجتمعات الإنسانية ، وتتحدد هوياتها من خلال المضامين المعرفية المنبثقة من بنيتها الداخلية ، بشكل يقلل قدرة التفاعل الكوني في ابتكار المعارف وتصميم محتواها على كامل الوجود الإنساني .
فالسرعة في إحداث التبدلات الاجتماعية قائمة على وعي مختلف في وجوده عن الوعي الثقافي الناشط داخل البناء الاجتماعي ، لأن السرعة في إحداث التبدلات الاجتماعية تحتاج إلى وعي علمي وأساليب عملية يضعها العلم أمام الوجود الاجتماعي لتدخل في نظامه ، وتكون قادرة على خلق الظروف المغايرة لما هو سائد ، فالسرعة التي حققها العلم في تطوير وسائل التعبير والاتصال تمتلك في بنيتها ما يجعلها توفر كافة السبل والوسائل لتأمين الاتصال بين الناس ، وتجعل إمكانية المعرفة واسعة إلى حد بعيد ، وتسرع الوقت اللازم لإكتساب المعارف والإطلاع السريع على تجارب الأمم وكافة الإنجازات الثقافية ، والكثير من أنماط الحياة المختلفة .
فالتقدم التكنولوجي يجعل التواصل الإنساني مرئياً ومسموعاً والتقارب الإنساني يصبح واضحاً لأن الوعي مباشر والمشاهدة حية ، فلا شيء يقوم بتزوير الحقائق ولا مجال للشائعات والأكاذيب والتلفيقات على أساليب الوجود ومختلف أنماط الوعي والسلوك للمجتمعات المتغايرة الثقافات ، فتظهر الحقائق متجلية للعيان كمشاهد وسامع وحتى التواصل الشخصي يلعب دوراً في نبذ الأوهام المعبأة للعقول حول البنية الأخلاقية وغيرها من الأنماط المختلفة عند كل الشعوب ، فالحقائق تأتي من الأخر بشكل مباشر مترافقة مع توضيح جميع الخصائص والسمات التي تقوم عليها العقول في العالم .
فالاتساع المتزايد لوسائل الاتصال الكونية وقدرة المتابعة اللحظية لكافة المجريات العالمية ، تعمق روح المشاركة الوجدانية بين الشعوب وتجعلهم منفعلين أمام نوازل الدهر والمشاكل المأساوية الحاصلة في أماكن متفرقة من العالم ، نظراً للمشاهدة العيانية للأحداث بتفاصيلها الدقيقة ، فيتعمق البناء التفاعلي والقدرة على التلاحم أمام مآسي الوجود ويرتفع الوعي المحلي حتى التلاقي مع الوعي العالمي ، ويتأمن وضع عالمي مخالف في طبيعته وسلوكه عن أناط التفاعل السابق بسبب انتشار وسائل الاتصال المتقنة فتدخل العادات والأساليب الاجتماعية وكل ما يمكن أن يستوعبه الإنسان داخل بنيته النفسية ، فيتسع الأفق العام للأفكار بما يعزز التواصل والقدرة على قبول الاختلاف ، فجميع الأفكار والعادات والتقاليد تظهر وكأنها طبيعية لا تؤثر في النفس المغايرة بشكل يجعلها رفضية أو مستهجنة ، لأن الحياة الكونية تهذب العقول وتعزز طاقة الاستيعاب فيها ، فينشأ واقع يمكن الاعتماد عليه في خلق وعي قادر على التجاوب مع المتطلبات الإنسانية ، وتتخذ كافة الإبداعات ومجمل الأفكار الناشئة عن قدرة التوسع المماثل لماهية الكون ، وتتجه جميع الإنجازات المادية والعقلية لتلبية الضرورات على إجمالي المساحة الجغرافية للوجود البشري .
بهذا التعمق تنفتح الآفاق ويدخل الإنسان عصر الكونية وتتوسع الطاقات اللغوية لتندمج وتتفاعل مع كافة اللغات الحية في العالم ، ويتهيأ الواقع لتغيير مضمونه التاريخي ، بحيث يطهر الإنسان فاعلاً في محيط أوسع ، ويدخل في نظام من علاقات متفاعلة ومتواصلة مع كافة العناصر البشرية ، وتزداد القدرة البشرية على تحديد مصادر الشر على الأمن والسلام والوجود ، وتتسع جهود المواجهة لكل عمل أو تخريب يمس العملية الجوهرية للتقدم الاجتماعي وخلق بؤر للتوتر الدائم وتزداد قوة الرفض الإنسانية لكل ما يعيق وجودها الحر والآمن ، إنها مرحلة شديدة التفاعل لخلق واقع مغاير للتوجهات الحربية من أجل مصالح محلية ضيقة ، وترتفع المسؤولية إلى المستوى المعبر عن الحرص الشديد لمجمل المسائل والأهداف والغايات الحريصة على تأمين سلامة الكوكب من جميع الأخطار الناتجة عن الجوع وتفاقم الأمراض ويأتي في مقدمتها الأخطار الناتجة عن التلوث والأخطار الناتجة عن الحروب ، وتوحيد الجهود الإنسانية للقضاء على الأمراض وكافة المشاكل الناتجة عن الأخطار الإنسانية .
فيما يخص المحور الأساسي للعلاقة التعليمية بين المعلم والمتعلم يتم التغيير التدريجي للدور المحاط بجوهر العملية التعليمية والمؤسس على إعطاء المعلم القيمة الفعلية في عملية التعليم على كامل المساحة التاريخية قبل ظهور التكنولوجيا ، لقد كان المعلم فعالية متصفة بالبعد والسعة والاحترام ويلعب دوراً مهماً في واقع يتصف بالنهوض ، فالمعلم كان مفتاح المعرفة وأساس بناءها ، يمتلك قيمة ذاتية لأهميته في إعداد الإنسان القادر للدخول ضمن الفاعلية الاجتماعية والعلمية ومجمل الهيكلية الإدارية والسياسية المتشكلة في بنية المجتمع وهو الناظم الأساسي لإعداد العقول القادرة على تأمين الغطاء الهيكلي للمجتمع ورفده بالكوادر اللازمة للقيام بالأعباء الاجتماعية والثقافية بمختلف أشكالها ، غير أن الواقع لم يستمر على نفس الدرجة من التتابع في صياغة الواقع وتوضيح دوره ، فالتطور التقني البالغ الدقة غير المجرى البنائي لهيكلة التعليم ذاتها وشق مجرى مخالف لما هو قائم ، حيث ظهر المتعلم بأنه المحور الأساسي لعملية التعليم فتغيرت نمطية العلاقة الداخلية في المجتمع لتؤكد بان جوهر العملية التعليمية مبنية أساساً على إعداد متعلم كفوء يمتلك قدرة توجيه الذات وصيانتها وتشكيل محتواها بما يتفق مع التغيرات الكونية ، فدخلت التربية كأساس مرافق لعملية العطاء المعرفي ، فليس من الواجب إعطاء الإنسان القدر المطلوب من المعارف المكتسبة دون أن يرافقها أخلاق تعطيها بعدها الواعي في التفاعل الاجتماعي والعالمي ، كي لا تظهر المعرفة وكأنها ثمار كثيفة على أشجار عارية من الخضرة ، لأن ما يعطي مذاق ثمرة العلم نكهتها الخاصة هي التفاعلات القائمة في أوراقها لأنها تكمل المواد الضرورية في تركيب الثمرة وتعطيها قدرة النضج الصحيح والمفيد .
إن العالم بدأ يدرك أكثر فأكثر بأن الوجود العلمي والتفوق العلمي في جميع مجالات الحياة قد يؤدي إلى كوارث إن لم ترافقه فاعلية قيمية تقيه من خطر الانجراف نحو المتاهات المضللة ، فالإرهاب هو الصورة الأكثر وضوحاً لهذه المسألة ، كما أن البنية التكنولوجية القابلة للانحراف تميل إلى الاستهتار بالعلم والمعرفة وإن التساهل في ضبط القيم التفاعلية في المجتمع تغيّر النظرة تجاه القيمة الأساسية للحياة وتظهر الفعاليات الاجتماعية الهامة وكأنها لا تعبر عن مضمونها الحقيقة لأن النظام الاجتماعي لا يعطيها الأهمية الكافية ، فعندما ينظر المجتمع إلى ممثلي العدالة وكأنهم تجار أو قيمة موازية لسائقي الأجرة ضمن وظائف اجتماعية يتراكم الفساد فيها و يظهر النسيج الاجتماعي كأوراق مختلفة تغطي الأرض ولا يفوح منها سوى رائحة العفن .
فالسرعة الكمية لتزايد وسائل الاتصال وتقنياتها العالية تؤدي إلى عزوف الناس عن قراءة المطولات والاكتفاء بالقراءات المختصرة ، والحصيلة النهائية لعطاءات الفكر المختلفة ، فعندما كانت الاتصالات تعاني من البطء الشديد كانت الموسوعات والروايات الضخمة هي السائدة والمعبرة عن روح المجتمع ، فالإسهاب ووصف الأفكار ومقدرتها على التسلية كان الواقع السائد في المجتمعات الهادئة كما هي الحال في الكوميديا الإلهية لدانتي وألف ليلة وليلة ، فالموسوعات الفكرية والقصصية هي السمة الأساسية لعصر التفاعل البطيء والطويل .
وفي العصر الراهن وأمام تزايد الكم الهائل من قنوات الاتصال والبث الموجه والتنوع في وسائل التعبير والتفاعل بين البشر ، أحدث عصراً يعتمد في حياته على قصر المعلومات والمعارف المكثفة وظهور إمكانية دمج كم هائل من المعارف في مساحات صغيرة جداً ، وانتقاء ما هو ضروري منها وما يناسب الوضع الاجتماعي والثقافي والعلمي للفرد إضافة إلى قدرة الإطلاع على كافة أنواع البث التلفزيوني في العالم وقدرة الدخول إلى كافة الشبكات والمواقع على اختلاف مستوياتها ، فالواقع الجديد وما يحويه من مضامين لا بد أن يرفع الوجود البشري إلى عصر مختلف في ماهيته الأساسية ، ولا بد أن يكون للعالم نظام يخالف كل ما هو سائد قبل ظهور الواقع الجديد ، ولا بد أن تصبح النمطية الاجتماعية في العالم على قدر كبير من الترابط والتقارب ، وبالتالي فإن الحياة وكافة المسائل المتعلقة بها لا بد أن يصونها الواقع الكوني المتشكل لأن المشاكل لم تعد تحصل في إطار هامشي بعيد عن اهتمام الشعوب وتطلعاتها ، فما دام الاندماج الكوني مستمر في التفاعل بين أرجاء المعمورة ، لا بد أن يتوافق مع الدمج الفعال للنظم والقوانين السائدة في الكون لأن الحياة في ترابطها المنسجم تؤدي إلى ترابط كافة مكوناتها ، وبالتالي التوصل إلى حلول جماعية تهم العالم أجمع وتخص العالم أجمع ، فالقدرة على الانعزال اضمحلت كثيراً وهي مستمرة في ذلك ، وبالتالي فإن الانفتاح الكوني لا بد أن يتوافق مع وعي كوني ونظام كوني .